الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. قَالَ شَيخ ُ الإسْلام أَحْمَدُ بنُ تَيمية ـ طَيَّب اللَّهُ ثَرَاه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم تسليما. /ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، مع ما يستفاد من كلام اللّه ـ تعالى ـ فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام اللّه ورسوله، فإن هذا هو المقصود. فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء، بل نذكر من ذلك ــ في ضمن بيان ما يستفاد من كلام اللّه ورسوله ــ ما يبين أن رد موارد النزاع إلى اللّه وإلى الرسول خير وأحسن تأويلا، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة. فنقول: قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل ـ عليه السلام ـ بين مسمى [الإسلام] ومسمى [الإيمان] ومسمى [الإحسان]. فقال:(الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا). وقال:(الإيمان: أن تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). والفرق مذكور في حديث عمر الذي انفرد به مسلم، وفي حديث أبي هريرة الذي اتفق البخاري ومسلم عليه، وكلاهما فيه: أن جبرائيل جاءه في صورة إنسان أعرابي فسأله. وفي حديث عمر: أنه جاءه في صورة أعرابي. وكذلك فسر [الإسلام] في حديث ابن عمر المشهور، قال: (بني الإسلام على خمس:شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،وحج البيت، وصوم رمضان). وحديث جبرائيل يبين أن الإسلام المبني على خمس هو الإسلام نفسه/ليس المبني غير المبني عليه، بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات أعلاها:الإحسان، وأوسطها: الإيمان، ويليه:الإسلام، فكل محسن مؤمن،وكل مؤمن مسلم،وليس كل مؤمن محسناً،ولا كل مسلم مؤمنا، كما سيأتي بيانه ــ إن شاء اللّه ــ في سائر الأحاديث،كالحديث الذي رواه حماد بن زيد،عن أيوب،عن أبي قلابة، عن رجل من أهل الشام،عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:(أسلم تسلم).قال:وما الإسلام؟ قال:(أن تسلم قلبك للّه،وأن يسلم المسلمـون مـن لسانك ويـدك).قال:فأي الإسلام أفضل؟ قال:(الإيمان). قال: وما الإيمان ؟ قال: (أن تؤمن باللّه وملائكته، وكتبه ورسله، وبالبعث بعد الموت). قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال:(الهجرة).قال:وما الهجرة؟قال:(أن تهجر السوء).قال:فأي الهجرة أفضل؟ قال: (الجهاد).قال:وما الجهاد؟ قال:(أن تجاهد،أو تقاتل الكفار إذا لقيتهم،ولا تَغْلُل،ولا تَجْبُن). ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (عملان هما أفضل الأعمال، إلا من عمل بمثلهما ــ قالها ثلاثا ــ حجة مبرورة، أو عمرة) رواه أحمد، ومحمد بن نصر المروزي. ولهذا يذكر هذه (المراتب الأربعة) فيقول: (المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر السيئات، والمجاهد من جاهد نفسه للّه). وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد اللّه بن عمرو،وفَضَالة بن عبيد وغيرهما بإسناد جيد، وهو في السنن، وبعضه في الصحيحين./ وقد ثبت عنه من غير وجه أنه قال:(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم).ومعلوم أن من كان مأموناً على الدماء والأموال؛ كان المسلمون يسلمون من لسانه ويده،ولولا سلامتهم منه لما ائتمنوه.وكذلك في حديث عبيد بن عمير، عن عمرو بن عَبَسة. وفي حديث عبد اللّه بن عبيد بن عمير ـ أيضاً ـ عن أبيه،عن جده؛ أنه قيل لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال:(إطعام الطعام، وطِيبُ الكلام). قيل: فما الإيمان؟ قال: (السَّمَاحة والصبر). قيل: فمن أفضل المسلمين إسلاماً؟ قال:(من سَلِم المسلمون من لسانه ويده).قيل: فمن أفضل المؤمنين إيمانًا؟ قال:(أحسنهم خُلُقاً). قيل: فما أفضل الهجرة؟ قال:(من هَجَر ما حَرَّم اللّه عليه). قال:أي الصلاة أفضل؟ قال:(طول القُنُوت). قال:أي الصدقة أفضل؟ قال:(جُهْد مُقل). قال: أي الجهاد أفضل؟ قال: (أن تجاهد بمالك ونفسك،فيُعَقْرُ جَوَادُك، ويُراق دَمُك). قال أي الساعات أفضل؟ قال: (جَوْف الليل الغَابِر). ومعلوم أن هذا كله مراتب، بعضها فوق بعض، وإلا فالمهاجر لابد أن يكون مؤمناً، وكذلك المجاهد؛ ولهذا قال:(الإيمان: السماحة والصبر)، وقال في الإسلام: (إطعام الطعام، وطيب الكلام).والأول مستلزم للثاني؛ فإن من كان خلقه السماحة، فعل هذا بخلاف الأول؛ فإن الإنسان قد يفعل ذلك تَخَلُّقاً،ولا يكون في خلقه سماحة وصبر. وكذلك قال:(أفضل المسلمين/ من سلم المسلمون من لسانه ويده).وقال:(أفضل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ،ومعلوم أن هذا يتضمن الأول؛ فمن كان حسن الخلق فعل ذلك. قيل للحسن البصري:ما حُسْن الخلق؟ قال: بَذْل النَّدَى، وكَفُّ الأذى،وطلاقة الوجه. فكف الأذى جزء من حسن الخلق. وستأتي الأحاديث الصحيحة بأنه جعل الأعمال الظاهرة من الإيمان كقوله:(الإيمان بِضْعٌ وسبعون شُعْبَة، أعلاها قول لا إله إلا اللّه، وأدناها إمَاطَة الأذى عن الطريق). وقوله لوَفْد عبد القَيْس:(آمركم باللّه وحده،أتدرون ما الإيمان باللّه وحده؟شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له،وإقام الصلاة،وإيتاء الزكاة،وأن تؤدوا خُمُسَ ما غَنِمْتُم). ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانًا باللّه بدون إيمان القلب؛ لما قد أخبر في غير موضع، أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وفي المسند عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام عَلاَنِيَة، والإيمان في القلب). وقال صلى الله عليه وسلم:(إن في الجسد مُضْغَة، إذا صَلُحَت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد،ألا وهي القلب). فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً، بخلاف العكس. وقال سفيان بن عُيَيْنَة: كان العلماء فيما مَضى يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: من أصلح سَرِيرَته،أصلح اللّه علانيته، ومن أصلح ما بينه/ وبين اللّه، أصلح اللّه ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته، كَفَاه اللّه أمر دنياه. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب [الإخلاص]. فعلم أن القلب إذا صلح بالإيمان، صلح الجسد بالإسلام، وهو من الإيمان؛ يدل على ذلك أنه قال في حديث جبرائيل:(هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم).فجعل الدين هو الإسلام،والإيمان،والإحسان.فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة، لكن هو درجات ثلاث: مسلم ثم مؤمن ثم محسن،كما قال تعالى: وأما [الإحسان] فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان. و[الإيمان]أعم من جهة نفسه،وأخص من جهة أصحابه من الإسلام.فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام،والمحسنون أخص من المؤمنين،والمؤمنون أخص من المسلمين. وهذا كما يقال: في [الرسالة والنبوة]، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها،وأخص من جهة أهلها؛فكل رسول نبي،وليس كل نبي رسولاً، فالأنبياء أعم، والنبوة نفسها جزء من الرسالة، فالرسالة تتناول النبوة وغيرها بخلاف النبوة؛ فإنها لا تتناول الرسالة. /والنبي صلى الله عليه وسلم فسر [الإسلام والإيمان] بما أجاب به، كما يجاب عن المحدود بالحد،إذا قيل:ما كذا؟ قيل: كذا، وكذا. كما في الحديث الصحيح، لما قيل: ما الغِيبَة؟ قال: (ذِكْرُك أخاك بما يَكْرَه). وفي الحديث الآخر:(الكِبْر بَطَر الحق،وغَمْط الناس). وبَطَر الحق: جحده ودفعه. وغَمْط الناس: احتقارهم وازدراؤهم. وسنذكر إن شاء اللّه تعالى سبب تنوع أجوبته، وإنها كلها حق. ولكن المقصود أن قوله:(بُنِي الإسلام على خمس)، كقوله:(الإسلام هو الخمس) كما ذكر في حديث جبرائيل؛ فإن الأمر مركب من أجزاء، تكون الهيئة الاجتماعية فيه مبنية على تلك الأجزاء ومركبة منها؛ فالإسلام مبني على هذه الأركان وسنبين ــ إن شاء اللّه ــ اختصاص هذه الخمس بكونها هي الإسلام، وعليها بني الإسلام، ولم خصت بذلك دون غيرها من الواجبات؟ وقد روى في بعض طرقه:(الإيمان باللّه، وشهادة أن لا إله إلا اللّه). /لكن الأول أشهر.وفي رواية أبي سعيد:(آمركم بأربع،وأنهاكم عن أربع: اعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً)، وقد فسر ـ في حديث شعب الإيمان ـ الإيمان بهذا وبغيره، فقال:(الإيمان بِضْعٌ وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة،أفضلها قول لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعْبَة من الإيمان). وثبت عنه من وجوه متعددة أنه قال:(الحياء شعبة من الإيمان) من حديث ابن عمر، وابن مسعود، وعمران بن حُصَين،وقال أيضاً: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)،وقال:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقال:(واللّه لا يؤمن، واللّه لا يؤمن، واللّه لا يؤمن). قيل: من يا رسول اللّه؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه)، وقال:(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). وقال:(ما بعث اللّه من نبي إلا كان في أمته قوم يهتدون بهديه، ويَسْتَنُّون بسُنَّتِه. ثم إنه يخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حَبَّة خَرْدَل)،وهذا من أفراد مسلم. وكذلك في أفراد مسلم قوله: (والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحَابُّوا،أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟/أفشوا السلام بينكم)، وقـال في الحديث المتفق عليه ـ من رواية أبي هريرة، ورواه البخاري من حديث ابن عباس ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يَنْتَهِبُ النُّهْبَة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن). فيقال:اسم [الإيمان] تارة يذكر مفرداً غير مقرون باسم الإسلام،ولا باسم العمل الصالح،ولا غيرها، وتارة يذكر مقروناً، إما بالإسلام،كقوله في حديث جبرائيل: (ما الإسلام وما الإيمان؟)،وكقوله تعالى: وكذلك ذكر الإيمان مع العمل الصالح، وذلك في مواضع من القرآن، كقوله تعالى: /ويذكر ـ أيضًا ـ لفظ المؤمنين مقروناً بالذين هادوا والنصارى والصابئين،ثم يقول: فالمقصود هنا العموم والخصوص بالنسبة إلى ما في الباطن والظاهر من الإيمان. وأما العموم بالنسبة إلى الملل، فتلك مسألة أخرى. فلما ذكر الإيمان مع الإسلام، جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة: الشهادتان، والصلاة، والزكاة،والصيام، والحج. وجعل الإيمان ما في القلب من الإيمان باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. وهكذا في الحديث الذي رواه أحمد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(الإسلام علانية، والإيمان في القلب). وإذا ذكر اسم الإيمان مجرداً، دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة،كقوله في حديث الشعب:(الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول لا إله إلا اللّه، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق). وكذلك سائر الأحاديث التي يجعل فيها أعمال البر من الإيمان. ثم إن نفي [الإيمان] عند عدمها،دل على أنها واجبة، وإن ذكر فضل إيمان صاحبها ـ ولم ينف إيمانه ـ دل على أنها مستحبة؛ فإن اللّه ورسوله/ لا ينفي اسم مسمى أمر ـ أمر اللّه به، ورسوله ـ إلا إذا ترك بعض واجباته،كقوله:(لا صلاة إلا بأم القرآن)، وقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) ونحو ذلك. فأما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، فإن هذا لو جاز، لجاز أن ينفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج؛ لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه. وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل ولا أبو بكر ولا عمر. فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه، لجاز أن ينفي عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل. فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه، ويتعرض للعقوبة، فقد صدق. وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب،فهذا لم يقع قط في كلام اللّه ورسوله، ولا يجوز أن يقع؛ فإن من فعل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئاً، لم يجز أن يقال: ما فعله لا حقيقة ولا مجازاً. فإذا قال للأعرابي المسيء في صلاته:(ارجع فَصَلِّ،فإنك لم تُصَلِّ)، وقال لمن صلى خلف الصف ـ وقد أمره بالإعادة ـ:(لا صلاة لفَذٍّ خلف الصف) كان لترك واجب، وكذلك قوله تعالى: /والجهاد ـ وإن كان فرضاً على الكفاية ـ فجميع المؤمنين يخاطبون به ابتداء،فعليهم كلهم اعتقاد وجوبه، والعزم على فعله إذا تعين؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من مات ولم يَغْزولم يُحَدِّث نفسه بغزو، مات على شُعْبَة نفاق) رواه مسلم. فأخبر أنه من لم يَهِمّ به، كان على شعبة نفاق.وأيضاً، فالجهاد جنس، تحته أنواع متعددة، ولابد أن يجب على المؤمن نوع من أنواعه. وكذلك قوله: وأما قوله: ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: ومثله قوله تعالى: ومن الأصوليين من يقول: إن [إن] للإثبات، و [ما] للنفي، فإذا جمع بينهما دلت على النفي والإثبات، وليس كذلك عند أهل العربية، ومن يتكلم في ذلك بعلم، فإن [ما] هذه هي الكافة التي تدخل على [إن] وأخواتها فتكفها عن العمل؛ لأنها إنما تعمل إذا اختصت بالجمل الإسمية، فلما كفت بطل عملها واختصاصها، فصار يليها الجمل الفعلية والإسمية،فتغير معناها وعملها جميعاً بانضمام[ما] إليها،وكذلك كأنما وغيرها. فإن قيل: إذا كان المؤمن حقاً هو الفاعل للواجبات التارك للمحرمات، فقد قال: قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن يكون ما ذكر مستلزمًا لما ترك؛ فإنه ذكر وَجَلَ قلوبهم إذا ذكر اللّه، وزيادة إيمانهم إذا تليت عليهم آياته مع التوكل عليه، وإقام الصلاة على الوجه المأمور به باطناً وظاهراً، وكذلك الإنفاق من المال والمنافع، فكان هذا مستلزمًا للباقي؛ فإن وَجَل القلب عند ذكر اللّه يقتضي خشيته والخوف منه، وقد فسروا [وجلت] بـ [فرقت]. وفي قراءة ابن مسعود:[إذ ذكر الله فرقت قلوبهم]. وهذا صحيح؛ فإن الوَجَل في اللغة:هو الخوف، يقال:حُمْرَة الخَجَل، وصُفْرَة الوَجَل، ومنه قوله تعالى: وقال السُّدِّي في قوله تعالى: وإذا كان وجل القلب من ذكره يتضمن خشيته ومخافته، فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور، وترك المحظور. قال سهل بن عبد اللّه: ليس بين العبد وبين اللّه حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إليه أقرب من الافتقار، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من اللّه. ويدل على ذلك قوله تعالى: قال مجاهد وإبراهيم: هو الرجل يريد أن يذنب الذنب، فيذكر مقام اللّه، فيدع الذنب. رواه ابن أبي الدنيا، عن ابن الجَعْدِ، عن شعبة،عن منصور،عنهما، في قوله تعالى: ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدوحون في الكتاب والسنة، لم يكونوا مستحقين للذم، وذلك لا يكون إلا مع فعل الواجبات، ويدل عليه قوله تعالى:/ قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية، فقالوا لي: كل من عصى اللّه فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب. وكذلك قال سائر المفسرين. قال مجاهد: كل عاص فهو جاهل حين معصيته. وقال الحسن وقتادة وعطاء والسُّدِّي وغيرهم: إنما سموا جهالاً لمعاصيهم، لا أنهم غير مميزين. وقال الزجاج: ليس معنى الآية: أنهم يجهلون أنه سوء؛ لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءاً، وإنما يحتمل أمرين:أحدهما: أنهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه. والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسموا جهالاً لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة، والعافية الدائمة. فقد جعل الزجاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل، وإما فساد الإرادة، وقد يقال: هما متلازمان، وهذا مبسوط في الكلام مع الجهمية. والمقصود هنا أن كل عاص للّه فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم/ مطيع للّه، وإنما يكون جاهلاً لنقص خوفه من اللّه؛ إذ لو تم خوفه من اللّه لم يعص. ومنه قول ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ: كفى بخشية اللّه علماً، وكفى بالاغترار باللّه جهلاً، وذلك لأن تصور المخوف يوجب الهرب منه، وتصور المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا، ولم يطلب هذا، دل على أنه لم يتصوره تصوراً تاماً، ولكن قد يتصور الخبر عنه، وتصور الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غير تصور المخبر عنه، وكذلك إذا لم يكن المتصور محبوباً له ولا مكروهاً، فإن الإنسان يصدق بما هو مخوف على غيره ومحبوب لغيره، ولا يورثه ذلك هرباً ولا طلبا. وكذلك إذا أخبر بما هو محبوب له ومكروه، ولم يكذب المخبر بل عرف صدقه، لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصور ما أخبر به، فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب. وفي الكلام المعروف عن الحسن البصري ــ ويروى مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ: [العلم علمان: فعلم في القلب، وعلم على اللسان. فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة اللّه على عباده]. وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى،عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَّة، طعمها طَيِّب وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحَنْظَلَة، طعمها مر، ولا ريح لها). وهذا المنافق الذي يقرأ القرآن يحفظه ويتصور معانيه، وقد يصدق أنه/ كلام اللّه، وأن الرسول حق، ولا يكون مؤمنا، كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم،وليسوا مؤمنين، وكذلك إبليس وفرعون وغيرهما. لكن من كان كذلك، لم يكن حصل له العلم التام والمعرفة التامة. فإن ذلك يستلزم العمل بموجبه لا محالة؛ ولهذا صار يقال لمن لم يعمل بعلمه: إنه جاهل،كما تقدم. وكذلك لفظ [العقل] ـ وإن كان هو في الأصل: مصدر عَقَل يَعْقِل عَقْلاً، وكثير من النظار جعله من جنس العلوم ـ فلابد أن يعتبر مع ذلك أنه علم يعمل بموجبه، فلا يسمى عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه، والشر فتركه؛ ولهذا قال أصحاب النار: فأخبرَ أن من يخشاه يتذكر، والتذكر هنا مستلزم لعبادته، قال اللّه تعالى: فالمؤثر التام يستلزم أثره، فمتى لم يحصل أثره لم يكن تاماً، والفعل إذا صادف محلاً قابلاً تم، وإلا لم يتم. والعلم بالمحبوب يورث طلبه، والعلم بالمكروه يورث تركه؛ ولهذا يسمى هذا العلم: الداعي، ويقال: الداعي مع القدرة يستلزم وجود المقدور، وهو العلم بالمطلوب المستلزم لإرادة المعلوم المراد، وهذا كله إنما يحصل مع صحة الفطرة وسلامتها، وأما مع فسادها، فقد يحس الإنسان باللذيذ فلا يجد له لذة بل يؤلمه، وكذلك يلتذ بالمؤلم لفساد الفطرة،و الفساد /يتناول القوة العلمية والقوة العملية جميعاً، كالممرور الذي يجد العسل مراً، فإنه فسد نفس إحساسه حتى كان يحس به على خلاف ما هو عليه للمرة التي مازجته، وكذلك من فسد باطنه، قال تعالى وقال تعالى: وكذلك قالوا: ومن الناس من يقول: لما لم ينتفعوا بالسمع والبصر والنطق،جعلوا صماً بكماً عمياً؛ أو لما أعرضوا عن السمع والبصر والنطق، صاروا كالصُّمِّ العُْمي البُكْم، وليس كذلك، بل نفس قلوبهم عميت وصمت وبكمت، كما قال اللّه تعالى: وقد جمع اللّه بين وصفهم بوجل القلب إذا ذكر، وبزيادة الإيمان إذا سمعوا آياته. قال الضحاك: زادتهم يقينا. وقال الربيع بن أنس: خشية. وعن ابن عباس: تصديقاً. وهكذا قد ذكر اللّه هذين والخشوع يتضمن معنيين: أحدهما: التواضع والذل. والثاني: السكون والطمأنينة، وذلك مستلزم للين القلب المنافي للقسوة، فخشوع القلب يتضمن عبوديته للّه وطمأنينته أيضاً؛ ولهذا كان الخشوع في الصلاة يتضمن هذا، وهذا؛ التواضع والسكون. وعن ابن عباس في قوله: وعن عمرو بن دينار: ليس الخشوع الركوع والسجود، ولكنه السكون وحب حسن الهيئة في الصلاة.وعن ابن سِيرِين وغيره: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء، وينظرون يمينًا وشمالاً حتى نزلت هذه: وخشوع الجسد تَبَعُ لخشوع القلب، إذا لم يكن الرجل مرائيا يظهر ما ليس في قلبه، كما روي: (تَعَوَّذُوا باللّه من خشوع النفاق)،وهو أن يرى الجسد خاشعاً والقلب خالياً لاهياً، فهو ــ سبحانه ــ استبطأ المؤمنين بقوله: وكذلك قال في الآية الأخرى: فإن قيل: فخشوع القلب لذكر اللّه وما نزل من الحق واجب. قيل: نعم، لكن الناس فيه على قسمين:مقتصد وسابق، فالسابقون يختصون بالمستحبات، والمقتصدون الأبرار: هم عموم المؤمنين المستحقين للجنة، ومن لم يكن من هؤلاء، ولا هؤلاء، فهو ظالم لنفسه، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللّهم، إني أعوذ بك من عِلْمٍ لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونَفْسٍ لا تَشْبَعُ، ودعاء لا يُسْمَع). / وقوة القلب المحمودة غير قسوته المذمومة، فإنه ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، وليناً من غير ضعف. وفي الأثر: القلوب آنية اللّه في أرضه، فأحبها إلى اللّه أصلبها وأرقها وأصفاها. وهذا كاليد فإنها قوية لينة، بخلاف ما يقسو من العقب،فإنه يابس لا لين فيه، وإن كان فيه قوة، وهو _ سبحانه _ ذكر وجل القلب من ذكره، ثم ذكر زيادة الإيمان عند تلاوة كتابه علماً وعملاً. ثم لابد من التوكل على اللّه فيما لا يقدر عليه، ومن طاعته فيما يقدر عليه، وأصل ذلك الصلاة و الزكاة فمن قام بهذه الخمس كما أمر، لزم أن يأتي بسائر الواجبات. بل الصلاة نفسها إذا فعلها كما أمر، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما روي عن ابن مسعود، وابن عباس: أن في الصلاة منتهى ومزدجراً عن معاصي اللّه،فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر،لم يزدد بصلاته من اللّه إلا بعداً.وقوله: لم يزدد إلابُعْداً، إذا كان ما ترك من الواجب منها أعظم مما فعله، أبعده ترك الواجب الأكثر من اللّه أكثر مما قربه فعل الواجب الأقل،وهذا/ كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يَرْقُبُ الشمس حتى إذا كانت بين قَرْنَي شيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر اللّه فيها إلا قليلاً)، وقد قال تعالى: وفي السنن عن عَمَّار، عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال:( إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها)،حتى قال:(إلا عشرها)،وعن ابن عباس قال: ليس لك من صلاتك إلا ما عَقَلْت منها. وهذا وإن لم يؤمر بإعادة الصلاة عند أكثر العلماء، لكن يؤمر بأن يأتي من التطوعات بما يجبر نقص فرضه. ومعلوم أن من حافظ على الصلوات بخشوعها الباطن، وأعمالها الظاهرة، وكان يخشى اللّه الخشية التي أمره بها، فإنه يأتي بالواجبات، ولا يأتي كبيرة، ومن أتى الكبائر _ مثل الزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر، وغير ذلك _ فلابد أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية والخشوع والنور، وإن بقي أصل التصديق في قلبه. وهذا من الإيمان الذي ينزع منه عند فعل الكبيرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).فإن المتقين كما وهكذا جاء في الآثار: قال أحمد بن حنبل في كتاب [الإيمان]: حدثنا يحيي، عن أشعث، عن الحسن، عن النبي صلىالله عليه وسلم قال:( ينزع منه الإيمان، فإن تاب أعيد إليه). وقال: حدثنا يحيي، عن عوف،قال: قال الحسن:يجانبه الإيمان ما دام كذلك، فإن راجع راجعه الإيمان. وقال أحمد:حدثنا معاوية عن أبي إسحاق، عن الأوزاعي، قال: وقد قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن): فإنهم يقولون: فإن لم يكن مؤمنا فما هو؟ قال: فأنكر ذلك. وكره مسألتي عنه. وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن إبراهيم بن/ مهاجر، عن مجاهد،عن ابن عباس؛ أنه قال لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه،لا يزني منكم زان إلا نزع اللّه منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه. وقال أبو داود السِّجِسْتَاني:حدثنا عبد الوهاب بن نجدة،حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا صفوان بن عمرو، عن عبد اللّه بن ربيعة الحضرمي؛ أنه أخبره عن أبي هريرة:أنه كان يقول: إنما الإيمان كثوب أحدكم، يلبسه مرة ويقلعه أخرى،وكذلك رواه بإسناده عن عمر، وروى عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وفي حديث عن أبي هريرة مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظُّلَّة، فإذَا انقطع رجع إليه الإيمان). وهذا _ إن شاء اللّه _ يبسط في موضع آخر.
|